التغيرات المناخية وتأثيرها على التراث الإنساني

التغيرات المناخية وتأثيرها على التراث الإنساني

دلت الأبحاث أن التغيرات المناخية أساسها زيادة نسبة بخار الماء في الجو وهي الظاهرة التي تسمى بالغازات الدافئة والتي تتضمن ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وتؤدي إلى زيادة تبخر الماء وهي التي تعتبر مسؤولة عن زيادة درجات الحرارة المؤدية في النهاية إلى ظاهرة الاحتباس الحراري . وهذا مدخل مهم لتحديد الظاهرة علمياً ومناخياً.

ومن بين الحقائق المزعجة بشأن تغير المناخ نتيجة هذا الاحتباس الحراري هي ذلك الاختلال في التوازن البيئي في الدول الأكثر عرضة للآثار المترتبة على تغير المناخ وهي بالأساس دول (جنوب) العالم الفقيرة وغير القادرة على التعامل مع العواقب  .. وبين دول (شمال) العالم كالولايات المتحدة ودول أوروبا وهي الأشد إسهاماً في التلوث والأكثر قدرة على التخفيف من الآثار المترتبة على التغير المناخي . والأمر هنا يشتمل على قضية (أخلاقية) تتلخص في مسألة العدالة الاجتماعية العالمية.
أما إذا تناولنا موضوع التغيرات المناخية وأثرها على التراث الإنساني فيجب أولاً أن نشير إلى الكوارث الطبيعية المفجعة التي يتوقع أن تترك وراءها مئات الآلاف وربما الملايين من البشر المشردين وتدمر مئات الآلاف وربما الملايين من المساكن والمشاريع الاقتصادية والعمرانية والزراعية والبني التحتية وتتسبب في إعادة دولاً ومناطق جغرافية بأكملها إلى الوراء عشرات السنين
فالأخطار كما تدل الدراسات تهدد الجميع بلا استثناء وأصبح من الضروري الالتفات إليها ليس فقط من زاوية إنسانية بل من زاوية اقتصادية حيث باتت تلك المخاطر تهدد الوجود الإنساني نفسه والإنسان هو أساس التنمية بكل أنواعها . وأول ما يمكن أن يوجه له اللوم في هذه التداعيات هو الإنسان ومشاريعه الصناعية المسؤولة عن انبعاث المواد والغازات الملوثة للبيئة حيث أن النظرية التقليدية لأصحاب هذه المشاريع الصناعية تؤكد أن الموارد البيئية هي موارد (متاحة) للاستخدام لمن يشاء (كالهواء والماء والأشجار) وقد ساهم في ترسيخ تلك النظرة الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تعتبر أن البيئة (متسامحة) مع ما تتعرض له من أضرار وأنها قادرة على (تعويض) ما تتعرض له من استنزاف بغض النظر عن حجم الاستنزاف المعني ، وقد زاد أيضاً من المشكلة النظرة الربحية للمشاريع الصناعية التي قد تأخذ طابعاً أنانياً خاطئاً يركز على تحقيق أقصى قدر من الأرباح باستخدام الحد الأقصى من الموارد المتاحة بغض النظر عن كونها موارد طبيعية هي ملك للمجتمع وليس لشركة أو مجموعة شركات معينة .
أما التراث الإنساني الذي يتوقع له أن يتأثر سلباً من هذه التغيرات الكارثية فهو بالدرجة الأولى نتاج طبيعي للمنجزات الحضارية والثقافية للبشر ويتأثر هذا التراث بمثل ما يمكن أن يحدث للبشر أنفسهم فالتراث الإنساني بغض النظر عن اللغة والدين والعرق والثقافة والموقع الجغرافي يتمثل في الانجازات الحضارية المتراكمة والمتنوعة كالمتاحف والتماثيل والمسارح ودور العرض الفني والفلكلوري والسينمائي والاستوديوهات الإعلامية ومراكز البحوث والمعرفة والجامعات والمعاهد والأكاديميات والمكتبات وإاستادات الرياضة بأنواعها المختلفة وكل منتجات البشرية ومنجزات المجتمعات بأنواعها المختلفة والآثار التاريخية التي لا تحصى ولا تعد ...

فإذا ارتفعت درجات الحرارة ذاب الجليد وارتفع منسوب المياه في المحيطات والبحار والأنهار وحدثت الفيضانات والسونامات المدمرة وقلت مياه الأمطار وزادت بالتالي نسبة الجفاف والقحط وانتشرت الأمراض وتشرد البشر . كل هذه التغيرات المناخية من شأنها أن تهدد ليس فقط التراث الإنساني بالدمار والفناء بل الوجود الإنساني نفسه خاصة في دول (الجنوب) الأكثر فقراً والأكثر هشاشة وتخلفاً ، والتي يصعب عليها المحافظة على تراثها ومنجزاتها الحضارية .
وهذه التغيرات ستؤدي أيضاً إلى ظهور عالم أكثر اضطراباً حيث من المتوقع أن تشتعل التوترات وتزداد الصراعات حول الموارد الطبيعية الشحيحة المتبقية من زراعية ومائية وسيشهد العالم الكثير من الحروب من بين الدول وبعضها البعض وبين المجموعات البشرية داخل الدولة الواحدة وعبر حدودها مع دول ومجموعات أخرى من أجل الحصول على أقل القليل مما تبقى من موارد .
وتشير إحدى الدراسات إلى أن ارتفاع مستوى مياه البحر بمعدل نصف متر فقط في دولة مثل مصر سيؤدي إلى تشريد حوالي مليوني نسمة من سكان الدلتا .
ويجب ألا يعتقد أي أحد بأن التغيرات المناخية هي قضية بيئية فقط بل هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى لأنها تتعلق بالفقر والصراعات وهجرة وتشرد البشر وكل هذه ستؤثر تأثيراً مباشراً وغير مباشر على التراث الإنساني الذي من المحتمل أن يختفي بعضه ويدمر للأبد بصورة مزعجة لا يمكن استعادته مجدداً وحتى لو استعيد جزء منه فهذا يتطلب الكثير من الوقت لترميمه وإصلاحه وإعادته لسيرته الأولى ، بالإضافة إلى حقيقة أن تفقد البشرية القدرة على الإبداع وعلى إنتاج تراث جديد في ظروف دمار شامل لأن فاقد الشيء لا يعطيه .
والخيار الوحيد أمام البشرية هو نسيان الخلافات والتخلي عن الطموحات المجنونة وغير المشروعة على حساب البيئة وأن تتضافر جهود الإنسانية لمعالجة مشكلة التلوث والتغيرات المناخية السالبة عن طريق إيقاف تلوث الهواء الناتج عن انبعاث الغازات السامة المؤدية إلى الاحتباس الحراري والكوارث المتوقعة والعمل على استخدام مجموعة التكنولوجيات النظيفة (الصديقة للبيئة) أو التقليل من ظاهرة الاحتباس الحراري إذا أردنا للإنسانية أن تحافظ على تراثها وتعمل على تطويره لخير البشر أجمعين .
حذر خبراء البيئة والمناخ في وثيقتهم الدولية الأخيرة في بروكسل (بلجيكا) خلال (أبريل 2007م) أن قارة أفريقيا ستكون من المناطق الأكثر تأثراً بالاحتباس الحراري ، وبما أن هنالك أكثر من عشرة دول عربية تقع في أفريقيا وهي (الجزائر – المغرب – تونس – ليبيا – موريتانيا – الصحراء المتنازع عليها – مصر – السودان – الصومال – جزر القمر – جيبوتي) ودول عربية أخرى في الشرق الأوسط مجاورة لقارة أفريقيا وتحديداً هي (اليمن – السعودية – الإمارات العربية المتحدة – لبنان – الأردن – سوريا – العراق – قطر – سلطنة عمان – ومملكة البحرين – الكويت) .
فإن الأمر يهمنا كعرب بصورة مباشرة وغير مباشرة . وبما أن معظم الدول العربية الأفريقية هي دول نامية وفقيرة فإن التغيرات المناخية الكارثية المتوقعة ستؤثر حتماً على التنمية المستدامة بها من خلال انخفاض الإنتاج الزراعي بمعدل النصف بحلول عام 2020 مما سيؤدي إلى تراجع العائدات الصافية بنسبة 90% مع نهاية القرن الحالي كما تقول التنبؤات .
وبالإضافة إلى ذلك فإن موجات الحر واتساع مناطق الجفاف ستؤدي أيضاً إلى تدهور نوعية التربة ويزيد الطلب على المياه وخاصة مياه الري وتحديداً في الدول العربية الأفريقية الأكثر جفافاً كموريتانيا وأجزاء واسعة من ليبيا والسودان والجزائر والمغرب وحتى مصر التي من المتوقع أن تفقد حوالي 12% من دلتا النيل الخصبة زراعياً وقد يؤدي هذا الجفاف إلى ظهور آفات زراعية وصحية جديدة .
هذه التغيرات ستؤدي أيضاً إلى تعرض الغابات إلى المزيد من الإزالة لاستخدام أراضيها في الزراعة لمواجهة تغذية الأعداد المتزايدة من السكان والتوسع العمراني لوقف هجرة البشر التي تنجم عنها سلوكيات اجتماعية جديدة لم تكن معتادة أو معروفة من قبل .

تناولنا التغيرات المناخية ودورها فيما يتعرض له العالم بصفة عامة والعالم العربي بشقيه الأفريقي والشرق أوسطي بصفة خاصة  من ظواهر طبيعية ضارية وكارثية . وأشرنا أيضاً لأثر هذه التغيرات على التنمية المستدامة في دولنا العربية وتناولنا الأثر الذي قد تتركه على المدن التراثية والتراث الإنساني كما جاء في المحاور الثلاث الأول . وبقي أن نقول ونشدد على ضرورة الالتزام بكافة الاتفاقيات الدولية الموقعة وتنفيذها بدقة . وتأتي على رأس هذه الاتفاقيات معاهدة المناخ الدولية التي تلزم الدول بالعمل على خفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري والتي أعدها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) وكذلك بروتوكول كيوتو اليابانية الذي يهدف لتحقيق خفض انبعاث الغازات المؤدية للاحتباس الحراري والذي يلزم كل دولة متقدمة بمساعدة دولة نامية أو أكثر على خفض غازاتها السامة . ويشمل الالتزام المساهمة العربية الجادة في الحملة الدولية لزراعة مليار شجرة والتي يتبناها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) للعام 2007 وهنا لا بد من التركيز على زراعة أنواع الأشجار التي تمتص أكبر كمية من غاز ثاني أكسيد الكربون وإطلاق غاز الأكسجين وقد بدأت دولة قطر بزراعة مساحات واسعة من نبات القرم الذي يؤدي لتحقيق نفس الهدف.
ويهمني هنا كنائب لرئيس الاتحاد العربي للشباب والبيئة أن أشيد بتوصيات المؤتمر الدولي الثاني للتنمية والبيئة في الوطن العربي والذي عقد بجامعة أسيوط بمصر بمشاركة 350 باحثاً من 14 دولة عربية وخاصة في ما يتعلق بوضع إستراتيجية عربية بيئية موحدة وتأسيس مركز عربي متخصص في دراسة ظاهرة التصحر العربي وإنشاء هيئة عربية لشؤون البيئة وإقامة مجلس وطني لكل دولة يهتم بالبيئة وترتبط هذه المجالس بمجلس قومي موحد تحت مظلة الجامعة العربية وفي دولة قطر مثلاً توجد العديد من الجهات المهتمة بالبيئة مثل المجلس الأعلى للبيئة والمحميات الطبيعية ومركز أصدقاء البيئة وبرنامج قطر خضراء وغيرها من المنظمات .

بقيت كلمة أخيرة أوجهها إلى شباب الأمة والجيل الصاعد وأناشدهم فيها بعدم الاستهانة بموضوع التغيرات المناخية وأثرها الضار في حاضر ومستقبل حياتنا العربية والاهتمام بدراسة هذه الظاهرة وتوعية كل شرائح المجتمع العربي بمخاطرها وطرق مواجهتها وتقديم الحلول لها والتعاون مع كل الجهات ذات العلاقة في استنباط الطرق والمشاريع والخطط العلمية على المستوى المحلي والإقليمي والعربي وفي كل المجالات الزراعية والصناعية والخدمية التي تحد من ظاهرة الاحتباس الحراري .
فمتى ما عرف الشباب العربي ما هو المطلوب منه فلا يبقى سوى التنفيذ . فالأمر خطير وكثير من جوانبه التوعوية لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو إمكانيات كبيرة بل تحتاج إلى إرادة وعزيمة وجهد صادق لتخطي الصعاب لأن الكارثة لو حدثت لا قدر الله ستعم الجميع وبالله التوفيق .

                                       مركز أصدقاء البيئة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن المشكلات المدرسية

طريقة العمل مع الحالات الفردية

جماعة الهلال الأحمر بالمدرسة