شواطئ الكلمات

العُشب على الضفة الأخرى أخضر
2010-11-25


لماذا يا ترى حين نكون على ضفة نهر وننظر تحت أقدامنا نرى الحجارة والأغصان المفتتة والرمال المختلطة بالأعشاب الصفراء، ولكن حين ننظر إلى الضفة الأخرى فإننا نرى العشب الأخضر والمنظر الخلاب؟؟
هل يعني ذلك أننا كلما اقتربنا من المكان أو الأشخاص رأينا حقيقتهم وعيوبهم التي كانت تخفيها المسافة؟ أم أن طبيعتنا البشرية تجعل من الممنوع مرغوباً ومن البعيد حلماً ندفع أغلى الأثمان في سبيل امتلاكه، فإذا امتلكناه زهدنا به ولم نعد نعرف قدره؟
إن هذه المعادلة المؤلمة كثيراً ما تحدث معنا بل تكاد تكون هي الحقيقة التي لا يتناطح عليها كبشان، فهذا ما يحدث في العلاقات بين طرفين، حين يكون الأمر أشبه برؤية نجم ساطع في السماء ويكون الوصول إليه هو الحلم الذي تنام وتصحو عليه أطراف العلاقة، وحين يصبح الحلم حقيقة وتطول يد الواقع ذلك النجم، حتى يغدو ماسة تزين أنامله، حينها يبهت لونه ويفقد بريقه وتتحول نظرات ذلك الحالم إلى السماء ربما بحثاً عن نجمة أخرى وربما لأن عينيه لم تعد ترى روعة ما بين يديه..
إننا جميعاً نعرف خطورة الرمال المتحركة التي تسحب الإنسان بنعومتها الشديدة حتى يغوص فيها شيئاً فشيئاً، ويبقى كذلك حتى يصل لمرحلة لا يستطيع أن ينتزع نفسه منها فتقضي عليه.. وبالرغم من معرفتنا بذلك إلا إننا كثيراً ما نقع فريسة لها لأن نعومتها تشدنا إليها..
إن هذا ما يحدث معنا حين نحب سواء حبنا للجنس الآخر أو أبنائنا أو المال أو غير ذلك، فيصبح هذا الحب غاية بدلا من أن يكون وسيلة، وبدلاً من ان يكون سبباً للسعادة يغدو سبباً للشقاء، ويفقد المحب توازنه، حتى يغدو عابداً متبتلاً في محراب هذا الحبيب، لا يرى سواه، ولا يرضى إلا برضاه ولا يغضب إلا لغضبه، فيتبعه أينما حلت خطاه، لا تشرق شمسه إلا بوجوده، ولا تضحك دنياه إلا حين يشعر بقربه، ولا تغيب إلا حين يفارقه ظله.. وهكذا يغيب عن دنيا عبادة الله الذي لا بد أن يرجع إليه يوما من الأيام، وعن عائلته، أو عن نفسه حتى.. فتراه يكسر مبادئه وقيمه على أعتاب هذا الحبيب معلناً الولاء له دون غيره.. وهنا تكمن الكارثة حين يشعر الطرف الآخر بطوفان الحب الجارف من قبل هذا الحبيب، فيبدأ بالتهرب من دفع نصيبه من الاهتمام والتواصل معه لأنه كما يقال (الحب في الحياة كما السياسة لا أحد يريد دفع الثمن بعد تسلم البضاعة)، إذا فمَن قادته خطاه لبحيرة الرمال المتحركة، وألقى بكل وسائل دفاعه وسلم نفسه حتى طوقته تلك الرمال فلا يلومن إلا نفسه، فلن يكون احد أحرص منا على أنفسنا، فإذا سمحنا لذلك أن يحدث ولم نحافظ عليها فإن غيرنا بالضرورة لن يفعل ذلك..
إن مَن أعز نفسه واتخذ منهجاً وسطاً في حبه، ولم يذلها بالانصهار والمغالاة في الحب لاشك أن هذا الحب سيمنحه الاتزان الروحي والحياتي الذي من شأنه أن يعينه على المحافظة على الذات، وعلى الطرف الآخر وعلى سير الحياة بشكلها الصحيح، فقد أمرنا الله تعالى بذلك في كثير من المواضع، ونهانا من الإفراط في العبودية للهوى فقال عز من قائل (ومِن الناس مَن يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله) وقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وإبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما)، فالمغالاة في المشاعر أمر مرفوض لشدة خطره وما يسببه من دمار وألم للنفس البشرية.
فلابد من أن يكون الحب والولاء والعبودية لله عز وجل، فيكون القلب ممتلئاً مطمئناً بحبه تعالى، ثم يكون الحب الآخر موزعاً بين النفس والعائلة والأصحاب والشريك، وغير ذلك، وفي ذلك يقول الأديب البرازيلي باولو كويلهو (كل إنسان سعيد هو إنسان يسكن الله قلبه )، وهنا يتحرر من عبودية الطرف الآخر كائناً من كان، ويكون محمياً من ذل الاحتياج والضعف إلا لمَن خلقه...
ومضة:
إن الواقع يثبت أنه كلما استغنينا في علاقاتنا الإنسانية، حصلنا على إشباع ورضا أكثر، فالإنسان بطبيعته يحترم من كان قوياً في عواطفه ويستهين بمن تذلل فيها..
فلنفعل كما يقال (اذا اردت شيئا بشدة.. فاطلقه.. فإن عاد فسيكون لك للأبد.. وإلا فإنه لم يكن لك أصلا)..
ويكفي أن نحب بقلوب نقية، مخلصة ملؤها الوفاء والتقدير والصدق والاهتمام.. فإن كان قدر هذا الحب أن يدفن في مقبرة الأيام فلا أحد يعرف أين تكون الخيرة، فلربما كان على الضفة الأخرى لنا ميعاد..
وإن كان مقدراً له الحياة فلا يمكن لأي يد أن تغتاله..

المقالة منشورة بجريدة الشرق القطرية
مدونة الاخصائي الاجتماعي

تعليقات

  1. د عبدالله السكرى24 سبتمبر 2011 في 7:31 ص

    ما شاء الله كلماتك جميلة و معبرة يا استاذة عبير

    ردحذف

إرسال تعليق

شكرا لك على الجهد الطيب والله ولي التوفيق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بحث عن المشكلات المدرسية

طريقة العمل مع الحالات الفردية

جماعة الهلال الأحمر بالمدرسة